تفاصيلُ أزمة السفينة “صافر”: “ابتزاز” دولي يواجه الحقائق بـ “الضجيج”!

11 /8/ 2020م

تقرير:

عاد تحالُفُ العدوان لرفع قميص “خزان صافر” العائم مجدَّدًا، وهذه المرة على الساحة الدولية التي هيّأتها له بريطانيا والولايات المتحدة اللتان يبدو بوضوح أنهما تهندسان تصعيداً جديدًا لا يزالُ في مرحلته السياسية وقد يتطوّرُ؛ مِن أجلِ تعويضِ الفشلِ الذريع لأدواتهما الإقليمية في اليمن، لكنه تصعيدٌ يتمحورُ بشكل كامل حول الأكاذيب ويعتمد بشكل رئيسٍ على تكثيف “الضجيج”، وِفْــقًا لقاعدة أن الحقائقَ يمكن تغييرُها وقلبها ببساطة بواسطة بيان لمجلس الأمن، أَو تصريح لمسؤول أممي، وهو ما يعبر عنه “التبجح” الذي يمارسه اليوم تحالف العدوان ورعاته الدوليون، إذْ يتحدثون عن “كارثة” أسهموا على مدى أكثرَ من خمس سنوات، وبإصرار فاضح، في صناعتها، ليستخدموها فيما بعدُ كورقة لـ”الابتزاز”.

في التحقيق التالي تتبع صحيفةُ “المسيرة” أزمةَ خزان “صافر” العائم، منذ بدايتها، وبوثائقَ ومعلومات تثبت أن ضجيجَ تحالف العدوان ورعاته الدوليين اليوم يعادلُ “المشي في جنازة القتيل” الذي قتلوه مع سبقِ الإصرار والترصد، على أن بعَض القتلة يبذلون جهداً أكبرَ للتنكر، بينما يمشي “التحالف” وإدارته في هذه الجنازة بملابس الجريمة.

السفينةُ “صافر” وبدايةُ الأزمة

اشترت شركةُ “صافر لعمليات الإنتاج والاستكشاف” السفينةَ عام 1986؛ لتستخدمَها كميناءِ عائم لتخزين وتفريغ النفط، وهي تعتبر ثالث أكبر ميناء من هذا النوع، حيث تتسع لثلاثة ملايين برميل نفط، بوزن 409 آلاف طن متري.

وترسو السفينة منذ عام 1988 على بُعد قرابة 5 أميال من الساحل اليمني قبالة ميناء “رأس عيسى” النفطي، حيث تم ربطُها بخط أنابيب تصدير النفط من مأرب، وتجهيزها بمعدات لنقلِ النفط إلى السفن في عرضِ البحر.

وبدأت أزمةُ هذه السفينة مع بداية العدوان على اليمن، حيث منع “التحالف” ضخَّ النفط إليها ومنعَ تصدير مخزونها أَو بيعه، وبالتالي قامت شركة “صافر” بسحب العاملين في السفينة وعلى رأسهم فرق الصيانة الدورية (كانت الصيانة تكلف قرابة 10 ملايين دولار سنوياً)، الأمر الذي هدّد بكارثةٍ بيئيةٍ في حال تسرُّبِ حمولة السفينة.

كيف بدأ العدوانُ بصناعة “الكارثة”؟

 

بحمولة تزيدُ على مليون و200 ألف برميل من خام صافر الخفيف، ظلت السفينة عائمة بدون صيانة؛ بسَببِ إجراءات الحصار التي فرضها تحالفُ العدوان، لكن “صنعاء” المتهَمة اليوم بأنها سببُ الكارثة، سارعت في أكتوبر 2016 إلى الترتيب لاستيراد ناقلة “راما” المحملة بـ”3000″ طن من مادة المازوت، خصصت لغرض صيانة السفينة، وأصدر “التحالف” ترخيصاً يسمحُ بدخولها في البداية.

في الشهر التالي، وتحديداً في السابع من نوفمبر 2016، وجّهت شركةُ “الشرق الأوسط للملاحة المحدودة” خطاباً، حصلت الصحيفةُ على نسخة منه، إلى شركة النفط اليمنية، جاء فيه: “نوَدُّ الإفادةَ بأن قواتِ التحالف رفضت السماحَ للناقلة (راما 1) بالدخول إلى المياه الإقليمية اليمنية لتفريغِ كمية (3000 طن مازوت) في صافر.

بعدَها بيوم واحد، تخاطبُ شركةُ “صافر” وزيرَي النفط والنقل التابعَين لحكومة الفارّ هادي، في وثيقة حصلت عليها الصحيفة موضوعُها (السماحُ للناقلة راما 1 بالدخول إلى ميناء رأس عيسى لتفريغ 3000 طن من المازوت إلى الخزان العائم صافر).

تشرحُ هذه الوثيقةُ مشكلةَ سفينة صافر بشكل مفصَّلٍ؛ لتوضحَ سببَ ضرورة السماح لناقلة المازوت، حيث تقول:

“تشكّل غلاياتُ البخار العاملة بوقود المازوت قلب الخزان العائم صافر الذي بدونه تتوقفُ جميع الأنشطة وتتوقف الحياة أَو تكاد على الخزان، ويصبحُ الحفاظُ على أدنى مستوى من الصيانة، وبالتالي معايير السلامة والبيئة السليمة أمراً في غاية الصعوبة، بل مستحيلٌ في بعض الجزئيات خَاصَّة متها تلك التي يستلزم القيام بها توفر البخار أَو قدر عالٍ من الطاقة الكهربائية… إذن فالبخار هو الأَسَاسُ للخزان العائم وللحصول عليه لا بد من توفر مادة المازوت لتشغيل الغلايات”.

وتضيف شركة صافر: “منذ عام أكثر من سنة (أي منذ بدء العدوان) ونحن نحاول دونَ جدوى الحصول على كمية من المازوت الضروري جِـدًّا لاستئناف أعمال الصيانة على الأقل لتفادي التلف التام للخزان العائم” وحملت الوثيقة المتسبب بمنع الناقلة “راما1” من تفريغ حمولتها كامل المسؤولية عن النتائج.

قرأ تحالفُ العدوان وحكومة الفارّ هادي خطابَ شركة “صافر”، وألقوا به في سلة المهملات، ليثبوا بذلك إصرارهم على صناعة “الكارثة” التي يضجون بشأنها اليوم، إذْ شكّل منعُ نقل المازوت اللازم لصيانة الخزان العائم السببَ الرئيسي للأزمة برمتها.

بالمقابل، لم تتوقف سلطةُ صنعاء عن العمل لتجنب الأزمة، وفي التاسع من نوفمبر نفسه، بحسب وثيقة حصلت عليها الصحيفة، أصدر فرعُ الهيئة العامة للشؤون البحرية بالحديدة، مناشدةً للسماح بتموين الخزان “صافر” بمادة المازوت المحمل على الناقلة (راما1) والتي كانت متواجدةً بالقُرب من منصة صافر، في اليوم نفسه!

 

لم يتعمد تحالف العدوان تركَ الخزان العائم بدون صيانة فحسب، بل تعمّد إيقاف الحل الوحيد للأزمة والمتمثل بناقلة المازوت، على بُعد مسافة بسيطة من الخزان، وكأنه يستجيبُ لرغبة “سادية” ما!

تجاهُلٌ أممي لمناشدات وتحذيرات صنعاء

لم تتوقفْ صنعاءُ عن التحذير وإصدار المناشدات والرسائل، وعلى امتداد الفترة (من ديسمبر 2016 إلى يونيو 2019) دقت سلطات صنعاء ناقوس الخطر عشرات المرات، ولم تكن الأممُ المتحدة غائبةً عن المشهد، إذْ تلقت المنسقُ المقيمُ لها في اليمن (ليز غراندي) رسالتين موجهتين إلى الأمين العام، أنطونيو غوتيريس، سلّمهما وزيرُ الخارجية بحكومة الإنقاذ، هشام شرف، تم فيهما شرحُ وضع الخزان “صافر” والمطالبة على الأقل باستخدام حمولتها لتجنب التسريب، كما وجهت الخارجية رسالةً أُخرى بالمضمون ذاته لرئيس مجلس الأمن وأعضائه.

وخلال الفترة نفسها، أصدرت وزارةُ النفط بصنعاء عدة بيانات خاطبت الأمم المتحدة بضرورة التحَرُّك، وحذرت من الوضع الكارثي للخزان، ووقوعه في مرمى نيران تحالف العدوان، وطالبت بالسماح ببيع النفط الموجود فيه؛ لتجنب التسريب، وهو الأمر نفسُه الذي طرحه عضوُ المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، عدة مرات، حيث طالب الأممَ المتحدة بوضع آلية لبيع حمولة الخزان.

كما فعل تحالف العدوان وحكومة المرتزِقة من قبلُ، وضعت الأممُ المتحدة كُـلَّ المناشدات والتحذيرات في سلة المهملات نفسها، لتثبت هي الأُخرى اشتراكَها في الجريمة، ولم يكن ذلك مستغربا بالنظر إلى سلوك الأمم المتحدة الذي ظل يكشفُ دورَها كغطاء للعدوان منذ بدايته.

الأممُ المتحدة ترسلُ شركة صيانة “مجهولة” وبلا كفاءة!

في أغسطُس 2019، قرّرت الأممُ المتحدةُ أن تستيقظَ أخيرًا، ولكن ليس للتوقف عن المشاركة الجريمة، بل لتغيير وسيلة المشاركة، من التجاهل إلى الانتباه المشبوه الذي يخدُمُ أغراضاً بعيدةً كُـلَّ البُعد عن معالجة الأزمة.

تشير وثيقةٌ حصلت عليها الصحيفة، وصدرت عن “مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع” ذلك الشهر، إلى مشروع لـ”إجراء الفحص والتقييم للخزان صافر، ثم المباشرة بعمل الصيانة اللازمة لتفادي تسريب النفط”، وتطالب الوثيقةُ السلطات بالتعاون مع “الخبراء” والقيام بالتنسيق معهم.

استجابت سلطاتُ صنعاء للمشروع، وفي منتصف الشهر أصدرت وزارة الخارجية مذكرةً بشأن موافقتها على الإجراءات التي سوف تقومُ بها الأممُ المتحدة بشأن الخزان، وبناءً عليه وجّهت وزارةُ النقل مذكرةً لمدير عام فرع الهيئة العامة للشؤون البحرية بالحديدة، بشأن الموضوع نفسه لاستكمال الإجراءات نفسه.

عندها جاء ردُّ فرع “الهيئة” على وازرة النقل، بحسب وثيقة أُخرى، ليبلغَ بالآتي: “بعد البحث عن تفاصيل الشركة التي سوف تقوم بأعمال المسح والتقييم الفني للخزان العائم صافر، والمسماة (ASIA OFFSHRE SOLUTION AOS) وجدنا أن الشركة أسّست سنة 2012م والهيئة تتساءل متى اكتسبت الشركةُ المذكورةُ الكفاءة والريادة في مجال المسح وتقييم المنصات البحرية والسفن؟ هذا بالإضافة إلى أن الشركةَ المذكورة ليست من ضمن هيئات تصنيف السفن المعتمدة لدى الهيئة العامة للشؤون البحرية أَو حتى لدى المنظمة البحرية الدولية IMO”.

هكذا إذاً، بعدَ أكثرَ من أربع سنوات من استمرار منع صيانة الخزان صافر، ومنع بيع حمولته، ذهبت الأممُ المتحدةُ لتجلبَ شركة غير معروفة، لتقومَ بصيانة ثالث أكبر خزان نفطي عائم في العالم، وضعه بالغ الحساسية، وينذر بكارثة بيئية غير مسبوقة، الأمر الذي يطرح العديدَ من التساؤلات.

بالنظر إلى طريقة تعامُلِ الأمم المتحدة في مجال المساعدات، كان يمكن القولُ إنها لجأت إلى هذه الشركة؛ مِن أجلِ شراء خدماتها بثمن بخس ونهب ما تبقى من الميزانية المخصصة للمشروع، لكن المسألة كانت أكبر من ذلك، فالمشروع الأممي جاء بعد التوقيع على اتّفاق ستوكهولم، وفي فترة كان تحالفُ العدوان وبرعاية بريطانية وأمريكية يبحَثُ عن مبرّرات لإعادة التصعيد في جبهة الساحل (كما يرجّح أنه يفعل اليوم من خلال إعادة إثارة أزمة الخزان العائم) والاستعانة بشركة غير معروفة تحت مِظلة الأمم المتحدة كان يعني شيئاً واحداً هو أن الشركة لم تكن سوى مُجَـرّد أداة مهمتُها كتابةُ تقرير معد مسبقًا تستطيعُ دولُ العدوان الاستفادةَ منه، وربما لإصدار قرار عبر مجلس الأمن يخلّص “التحالف” من التزامات الاتّفاق الذي رعته الأممُ المتحدة.

لم تكتفِ الأممُ المتحدة بالصمت على تعمد تحالف العدوان منع صيانة سفينة “صافر”، ومنع بيع حمولته لتجنب التسريب، بل اشتركت بشكل مباشر في محاولات تحقيق “الغايات” السياسية والعسكرية التي أراد “التحالف” بلوغها من وراء صناعة هذه الأزمة.

وبالرغم من ذلك، لم تتوقف صنعاء عن المطالبة بالتحَرّك الجاد لتجنب كارثة التسرب المحتمل من الخزان العائم، ولم يقف الأمرُ عند ذلك، إذْ أعلن الفريقُ الوطني في لجنة إعادة الانتشار، في أكتوبر 2019، استعدادَ شركة “صافر” لإجراء الصيانة اللازمة للخزان، في حال وفّرت الأممُ المتحدة الإمْكَانيات اللازمة، مؤكّـداً أن كوادرَ الشركة لديهم القدرة على إجراء الصيانة على أكمل وجه.

لكن الأمم المتحدة ردّت على ذلك بالعودة إلى التجاهل الفجّ، وهو تجاهلٌ اشترك فيه أَيْـضاً المجتمعُ الدولي الذي تلقى عدة تحذيرات وتنبيهات ومناشدات أصدرتها العديدُ من مؤسّسات وهيئات السلطة في صنعاء وتضمنت: الهيئة العامة لحماية البيئة، ووزارتَي الخارجية والنفط، واللجنة الاقتصادية، ومجلس الشورى، ومجلس النواب، ورئاسة الوفد الوطني، وغيرها.

محاولةٌ لتعويض الفشل بـ”الابتزاز”

في ظلِّ هذه المعلومات الموثَّقة، نقفُ أخيرًا أمامَ “الضجيج” الأخير الذي يثيرُه تحالفُ العدوان بإيعازٍ أمريكي بريطاني، والذي تشترك فيه أَيْـضاً الأمم المتحدة بشكل فاضح في رفع وتيرته، لنجد أن من هندس لـ”كارثة” خزان صافر العائم، منذ أولِ يوم وبإصرار معلَن على الوصول بها إلى أشد المراحل حرجاً، هو نفسه من يظهر اليوم متباكياً عليها، ويحاول أن يلقيَ بأوزاره كلها على “صنعاء” التي لم تترك باباً يمكن أن يؤديَ إلى تجنب هذه الكارثة إلا طرقته.

تنظُرُ بريطانيا والولايات المتحدة إلى فقدان تحالف العدوان كُـلَّ خياراته العسكرية في اليمن، وتترقبان سقوطاً وشيكاً لآخر معاقل حكومة أدواته في مأرب، فتبحثان عن أي مخرج، ولسوء حظهما ظنتا أن خزان صافر هو الحل، لكن ذلك لا يبدو مبشراً بالنسبة لهما، فحتى “الضجيج” المستعجَلُ الذي تمت إثارته حول الخزان، بدءاً من تصريحات السفير البريطاني مُرورًا بتحَرّكات تحالف العدوان، إلى بيانات حكومة المرتزِقة، ثم جلسة مجلس الأمن الأخيرة وتصريحات منسق الإغاثة “مارك لوكوك”.. كُـلُّ ذلك لا يبدو كافياً أمام سلسلة الحقائق الدامغة التي تستند إليها صنعاء في موقفها من الخزان، وهو موقفٌ محرجٌ لتحالف العدوان ورُعاته، إذْ لم ترفض صنعاءُ أبداً أيَّ حَـلٍّ عملي حقيقي؛ لتجنُّبِ الكارثة.

والتبايُنُ الكبيرُ بين موقف صنعاء من أزمة الخزان صافر، وفضائح تحالف العدوان ورعاته والأمم المتحدة في هذا الإطار، يكشفُ حقيقةَ هذا الضجيج، كمحاولةٍ واضحةٍ لـ”الابتزاز” السياسي، عن طريق خلقِ “ضغط دولي” (حتى ولو كان بدون أَسَاس)، والواقعُ أن هذه المحاولةَ تترجمُ حقيقةَ “الهزيمة” التي يعاني منها رعاةُ هذا الضجيج في اليمن، وعلى رأسهم الولاياتُ المتحدة وبريطانيا، اللتان يبدو أنهما أقرتا أخيرًا بالفشل العسكري وتراجعتا إلى الميدان الذي لطالما كان ميدانَهما المفضَّلَ: ميدان الابتزاز والمزايدة.