مشاهد من يوم الاستقبال الكبير

18/ 10 /2020م

مقالات:

سند الصيادي

بدت شوارعُ صنعاء ساعة ظهيرة الخميس الماضي، شبهَ خاليةٍ إلَّا من حركة دؤوبة للمركبات وسط وأطراف جنوب المدينة، تيمم وجهها شمالاً، حاملة على متنها عائلات بأكملها من رجال ونساء وأطفال، تتسابق مع بعضها ومع الموعد المفترض لتحجز لنفسها موضعاً في المكان المحدّد قرب الحدث الكبير، والمكان المحدّد مطارُ صنعاء، والحدث الكبير عودةُ المئات من أَسْرَى الجيش واللجان الشعبيّة بعد سنوات طوال من الرزوح في سجون الاعتقال والتعذيب، إذن فالمشهدُ الذي شهدته العاصمة يتجاوز أية تصنيفات لتأطيره في قالب إخباري محدّد، وَيحتاج لتغطية أصدائه كافة صفحات الجريدة وكل برامج الخارطة اليومية لقنوات التلفزة المحلية.

وبالانتقال إلى الساحة التي تراصت على جنباتها الحشودُ، وَحدقت إلى عليائها العيون وعدسات الكاميرا، ترقب لحظة وصول أولى بشائر الصبر بنجوى العواقب السليمة، خوفاً من عودة سيناريوهات لطالما أحدثت في القلوب غصة من مبرّراتها بين التأخير والتسويف والمماطلات التي ظل يتذرع بها الأعداءُ في حضرة تواطؤ أدعياء الإنسانية، وَهو مشهد العالم الراهن وَديدنه، غير أن لا قلق أيها اليمني، فالمعادلةُ اليومَ قد اختلفت وَبات يحركها قوة المعطيات لا نزعة الضمائر، والقادمون إلينا ليس من منطلق هبة أَو مكرمة من أحد، هكذا تطمئنت أفئدةُ الأُمهات والآباء وَالأبناء في لحظات الترقب وَالانتظار، وَبها تعالت صرخاتُ الحشود بالتكبير والتسبيح مع هبوط أولى الدفعات وتواليها للقادمين من السماء على أرضيّة المطار.

مشهد فرائحي حافل بالمشاعر الجياشة وردود الفعل اللامتوقَّعة عن ما يمثله هذا الموقفُ اجتماعيًّا بعودة الروح الغائبة عن الأسرة، ورجوع بطلها وَلم الشمل وانتهاء حالة التوجس والفزع بعد سنين من التغريب في أزقّة عدوٍّ مُجَـرّد من آدميته، كُـلُّ ذلك كان حاضراً في وجوه أهالي الأَسْرَى في ساعة الصفر.

غير أن المشهدَ الذي تقدمته قياداتُ الدولة المدنية والعسكرية وله فرش السجاد الأحمر وَعزفت له الموسيقى العسكرية وَضج بهتافات الأَسْرَى المناهضة لأمريكا وَالصهيونية، هذا المشهد بأبعاده الإيجابية الكبرى يتجاوز تلك التفاصيل المكانية والزمانية، ليرسم وَيكتب ملامح وَحكاية وطن يتشكّل بيراع الإيمان وَبمداد الدم وَصحف التضحيات.

لم تفلح سنواتُ وأساليبُ الاعتقال في أن توهن من عقيدة ولا عزيمة الرجال، كما لم تفلح سنواتُ العدوان وأساليبه الوحشية، من قتل وَتدمير وحصار، في أن تنال من إرادَة الشعب أَو تحُــدَّ من رفده المادي والبشري لجبهات الدفاع المقدس عن الأرض والكرامة، مثلما لم تفلح أساليبُ وطرقُ التجريف والتحريف للمفاهيم والثقافات رغم الضخ الإعلامي الهائل، في أن تنزع عن شعبنا هُــوِيَّته وَإيمانَه، وبكلِّ مقاييس المقارنات والرصد انتصرت اليمن ببساطتها على العدوّ بتعقيداته في كُـلّ ميادين اختبار القدرة على التحمل وَالبقاء.

ثم ماذا يعني أن يعود الأَسْرَى وبهذا المستوى من التحشيد الرسمي والشعبي والإجراءات المتخذة وَالتغطية الإعلامية إلى صنعاء عاصمة كُـلّ اليمنيين، والذي أحرج كُـلَّ مطابخ التزييف وَقنوات الإعلام المعادي لشرعية الشعب وَإرادته، ودفعها إلى أن تبحثَ عن صورة مناوئة للصورة، وشعب مناوئ للشعب، من مطارات عدن وسيئون الخاوية على عروشها، وحينما فشلت في خلق ندية تسوق بها أباطيلها المعتادة، لجأت مُكرهةً إلى نقل الصورة من صنعاء، لعلها تنال شيئاً من متابعة الجمهور.

وَلو كانوا يعقلون لعرفوا أنهم فشلوا مبكراً، وأنَّ تلافي هذا الفشل كان أقلَّ كلفةً باحترام إرادَة هذا الشعب الشهم والكريم وَالتصالح معه لا بالمزيد من المكابرة على كسر إرادته وَتطويعه، غير أن الله بعمى بصائرهم قد أراد لنا اكتمالَ العزة ولهم حتمية الهلاك.

فها هي اليمن المغيبة ظلماً من الاعتراف الدولي ترسم مسارَ الأحداث وَتفرض شروطَها على مجرياتها، وَشيئاً فشيئاً.. بالتسلح بالإيمان وباستمرار الولاء والالتفاف حول شخص ومنهاج هذه القيادة الربانية التي أنعم اللهُ علينا بها، سيتسوّلُ الأعداءُ منا مكرمةَ الاعتراف بهم، ولا أظنه بعيداً.