نقاط من وحي المولد

بقلم / حميد رزق

 

اللوحة التاريخية والاحتشاد المليوني الواسع في صنعاء والمحافظات اليمنية يحمل دلالات عديدة ومهمة على صعيد الداخل والخارج أبرزها:
تأكيد على أصالة الشعب اليمني الذي يجدد العهد بالمضي في مشروع الحرية والسيادة بناء على مشروعه الذاتي والمستقل المرتبط بهويته الإيمانية التي لا تخضع لخطوط أمريكية ولا تقبل بالعيش تحت الهيمنة الأجنبية.
اليمن برغم تعرضه للحرب العسكرية والحصار الاقتصادي إلا أن ذلك لم يجعل اليمانيين وقيادتهم المؤمنة تنسى المواجهة في مستواها الأكبر والأوسع ،المواجهة الحضارية التي تستهدف المسلمين كأمة تستهدفهم في دينهم ورموزهم ونبيهم وتسعى إلى سلخهم عن انتمائهم الحضاري.
في ذكرى ميلاد النبي الكريم يتقدم الشعب اليمني صفوف الأمة خطوة في المواجهة الحضارية الأوسع فكان الاحتشاد التاريخي في المولد بمثابة موقف كبير وواسع يتبناه الشعب اليمني نيابة عن الأمة بأسرها ليقول لدول الهيمنة والاستعمار ( إن محمدا لم يمت وأمة محمد لم تمت ) ولو نكص عن المواجهة آخرون أو باع هذه الأمة وتآمر عليها حكام خونة وعملاء, لكن لا زال من أبنائها من يقوم بالواجب ويقدم النموذج الحضاري الذي يتوقع أن يكون بداية لصحوة والتفاف يمتد إلى بقية الشعوب والبلدان.
المظهر التاريخي المحمدي في اليمن ليس مجرد احتفال ولكنه إعلان عن الانتماء الحقيقي للأمة العربية والإسلامية مقابل معسكر آخر يجتمع فيه اليهود والخونة والمنافقون العرب وقد أشهروا سيوف العداء لأمة محمد صلوات الله عليه وآله ولدينها ونبيها وتاريخها بشكل سافر, وصار المطلوب منهم في هذه المرحلة الإجهاز النهائي على الأمة وإعلان الولاء لليهود من خلال سياسة التطبيع التي تجاوزت الجوانب السياسية إلى الاختراق الثقافي والفكري والعقائدي وهذا ما بات واضحا من خلال ربط التطبيع بالمجالات الدينية والتربوية, وكتب رئيس وزراء العدو الصهيوني نتنياهو ذات مرة على توتير قائلا: إن الشعوب تشكل العائق الأساسي أمام التطبيع.
***
وتكمن أهمية المولد في اليمن أنه فاتحة أو مقدمة لتحرك شعبي عربي وإسلامي يعم المنطقة بأسرها تحت عنوان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعادة الاعتبار للأمة ولدينها ويردع أعداءها ويسترد كرامتها واستقلالها وحريتها, وبالتالي دورها الحضاري بين الأمم والشعوب, فالاحتفال اليماني بالمولد بتلك الروح الإيمانية العالية والزخم الاستثنائي هو دعوة لكل عربي ومسلم لنلتقي نحن وأنتم على مساحة مشتركة مظلتها محمد بن عبد الله.
المولد بمثابة إعلان لمواجهة حركة التحريف لمبادئ ومفاهيم الإسلام الأصيلة التي مصدرها الكفر التكفيري الذي يواصل عملية تشويه الإسلام ومظاهر التدين السليم بل ويحارب رسول الله وأخلاقه وقيمه وحضوره في المجتمع والعمل على تصوير أن إحياء ذكرى رسول الله أو الاحتفال بمولده باعتباره بدعة وشركا وربما يصدرون الفتاوى لإهدار دماء من يتحرك بفاعلية وتأثير في هذا المجال.
الجانب الثاني -ممن يتولى التحريف والانحراف بتعاليم الإسلام يتولى كبره الحكام العملاء- التطبيع الديني من خلال استئجار رجال دين للحديث أو التأصيل أن العلاقة مع الصهاينة إنما هو التقاء بين الأديان أو تقارب بين أبناء العم, وفي هذا السياق يأتي الحديث عما يسمى بالاتفاق الإبراهيمي ليحل بديلا عن الإسلام ورسول الإسلام، وقد تم افتتاح معبد في الإمارات تحت المسمى السابق وهناك توجه لافتتاح فروع للمعبد الإبراهيمي في دول عربية وإسلامية أخرى.
***
ما يميز الاحتفال بمولد النبي في اليمن ليس فقط الكثافة البشرية فالأهم من ذلك أنه احتفال مرتبط برؤية ثقافية قرآنية تمت ترجمتها كمشروع يهدف لإقامة مجتمع مستقل يتخذ من رسول الله أسوة وقدوة، لا يخضع للوصاية الأجنبية أو الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية ، وهنا جوهر الفرق بين الاحتفال لمجرد الاحتفال الذي يقيمه حتى الطغاة والحكام العملاء ، وبين احتفالات ترفع ذكر محمد كموقف وسلوك يتمثله شعب يتمتع بالسيادة والاستقلال ، ومن المؤكد أن العدو يعرف أن القيادة اليمانية ممثلة بالسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي تحمل مشروع نهضة وبناء وحرية واستقلال، وما سعي الأعداء لاستنزاف اليمن وإشغال الشعب اليمني بسلسلة حروب متناسلة أو بفوضى واضطرابات وحصار هدفها الأساسي والاستراتيجي أن لا تجد تلك القيادة وشعبها الفرصة والوقت المتاح للبدء في ترجمة مشروعها على الأرض بما يعزز حالة الثقة المتبادلة بين الجماهير والقائد ويوفر مزيدا من ظروف الثبات والصمود في مواجهة التحديات الخارجية.
الاحتفال بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ( يقلق أعداء الأمة الحضاريين ) يهودا ودولا استعمارية كبرى لماذا ؟؟ لأن رسول الله رمز لوحدة مليار ونصف مليار مسلم والاحتفال به هو الاحتفال بالمثل الأعلى لكافة المسلمين في أنحاء العالم حيث لا فوارق مذهبية أو حواجز طائفية تفصل بين المسلمين وبين شخصية رسول الله ، وبالتالي فالحديث عنه صلى الله عليه وآله وإحياء ذكره لا يختص بفئة أو مذهب أو بدولة أو منطقة وأكثر من مليار ونصف المليار مسلم يعتبرونه أفضل خلق الله وعليه فإن التحرك الواسع في اليمن بمثابة رسالة موجهة لكافة المسلمين تخاطب فيهم عاطفة الحب لمحمد والقرب من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد صار الكثير من الناس في الدول العربية والإسلامية يقيسون مدى تفاعلهم واهتمامهم من خلال المقارنة بالشعب اليمني، زد على ذلك أن الكثيرين بدأوا يطرحون على أنفسهم أسئلة العتب فكيف لشعب يعيش تحت الحرب والحصار منذ سبع سنوات تقديم ذلك النموذج التاريخي والحضاري بينما من يعيش أوضاعا طبيعية تغيب عنه مظاهر الاهتمام برسول الله وميلاده وتعاليمه وأخلاقه.
المولد في ظل العدوان
في ما يخص العدوان واستمرار الحرب ودلالات الاحتفال بمولد النبي بالضخامة والمهابة التي كان عليها مشهد الاثنين كان المشهد تأكيدا جديدا للعالم بأسره أن شرعية الشعوب التي تتشدقون بها وتزايدون باسمها وتزعمون احترامكم لها تتمثل في الملايين التي شاهدها العالم تزحف في كل الساحات والميادين بالمحافظات الحرة وليست المرة الأولى التي يخرج اليمانيون بأعداد كبيرة تعكس حيوية شعب عظيم لا تثنيه التحديات والحروب عن المضي قدما للتعبير عن إرادته الحرة والمستقلة.
وفي مشهد المولد النبوي تجلت وحدة الموقف الداخلي وحيوية الجبهة المحلية بأقوى وأروع صورها ، فعندما يتابع العدو والصديق ذلك التوحد والصفوف المتراصة والانتماء لمنهج واحد وتحت راية واحدة وقيادة واحدة ومناسبة واحدة فهذا يحمل من المعاني الكثير ويوصل رسالة للأعداء أنكم أمام شعب عظيم يعرف طريقه ومصلحته ولن يتراجع أو يتنازل ويرضى بالمذلة والتبعية وهو في طريقه للانتصار على كل التحديات.
مشهد التوحد في الشكل والمضمون يوم المولد النبوي الشريف يرشد اليمانيين إلى أقصر الطرق لتحقيق الانتصار فوحدة الموقف خلف القيادة الحكيمة والشجاعة هو الطريق المضمون لنيل الحرية والكرامة والاستقلال والرهان على غير ذلك يمثل الوهم والسراب.
الجانب التنظيمي
في المجال التنظيمي جوانب عدة أبرزها النجاح الأمني الكبير في تأمين الحشود الهائلة والحفاظ على سلاسة وصولها ومغادرتها ساحات الاحتفال في 15 محافظة يمنية ، وفي جانب آخر من الصورة نجاح مشهود يتعلق باللجان التنظيمية والتحضيرية وتهيئة الساحات وتجهيزها لوجستيا وكذلك تقنيا لاستقبال ملايين المشاركين، ومن جوانب النجاح ميدانيا ما له صلة بسلوك الجماهير ودرجة الارتقاء في السلوك الجمعي أثناء الدخول إلى الأماكن المخصصة للاحتفال وكذلك مستوى الانتظام أثناء السير وفي الطرقات ومواقف السيارات برغم ضخامة الحشود وعدد المركبات وحافلات النقل الكثيرة في أماكن خاصة ، وهذا مؤشر مهم على ارتقاء الناس في سلوكهم على مستوى الفرد والجماعة
اجتماعياً
المولد النبوي أسهم في تفعيل غالبية شرائح المجتمع ما أدى إلى خلق جو عام تسوده الطمأنينة والروحانية، فالنشاط الواسع هذا العام في مجالات الإنتاج الفني من مسرح وإنشاد وحركة تزيين للشوارع وفتح مكبرات الصوت بأجمل الأناشيد والألحان والصلوات والأدعية بالإضافة إلى فيض المادة الروحانية النبوية في المساجد والندوات والفعاليات بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام المختلفة فتعطرت الأجواء بروح الإيمان وعبق الأخلاق المحمدية التي أعادت للقلوب الارتباط الروحي بنبي الرحمة والتكافل والمحبة وبالفضيلة التي أفقدتها نفوس الكثيرين عندما استفرد بها النشاط المادي والفن الهابط ورموز العهر والتعري أو الثقافة المادية التي أقلقت النفوس ودمرت المعنويات وحولت المجتمع إلى ساحة للتنافس الاستهلاكي القاتل الذي تحول إلى نار مستعرة تدفع للجريمة بمختلف أنواعها وأشكالها.
ومن الملاحظ أن فعاليات المولد النبوي المختلف والمتنوعة لها دور إيجابي في تخفيف الاستعمار المادي الذي أداخ المجتمع ، فعندما يكون الفرد في واقع يتفاعل مع رسول الله ، تتسع دائرة التأثير لتشمل فئات جديدة داخل المجتمع ليجد الكثيرون أنفسهم في دائرة الإسهام والتفاعل كل واحد من خلال اختصاصه وهوايته ونشاطه ( خطابة – وإرشاد – ندوات – إنشاد – برع – رقص – رسم – مسرح – تواشيح – زوامل – تزيين – تلوين – أعمال البر والإحسان من صدقات وإحسان وتكافل وصلة الأرحام وزيارة الأقارب ، إصلاح ذات البين وحل مشاكل الثارات وغيرها من الأنشطة ذات البعد الاجتماعي.
الحالة السابقة من التفاعل تنتج حركة وعي واسعة أشبه بموج يجرف الظواهر السلبية والثقافات المغلوطة ويعيد ترطيب العواطف وتليين الروح وربطها مجددا بحب محمد وأخلاق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا يجد الناس حلاوة الإيمان وطعم المودة والرحمة التآخي وكلما توسعت مظاهر الاحتفال بالنبي وتحولت إلى ممارسات وأعمال بر وإحسان وتكافل وإصلاح ذات البين كان الأثر أكبر وأعظم والتفاف الناس أعظم وإدراكهم أن هذه المناسبة مناسبة رحمة فعلا لا قولا ممارسة لا شعارا.
إعلامياً
الاحتفاء برسول الله انطلاقة مهمة لمواجهة أعمال الحرب الناعمة التي تتسارع وتتطور إلى درجة خطيرة فالكثير من وسائل الإعلام أوشكت على التحول إلى شبكة صيد للصغار والكبار والشباب والمراهقين من خلال المسلسلات والأعلام والأغاني وتطبيقات التواصل التي أصبحت ساحة حرب شرسة لترويج الرذيلة وإسقاط الناس في وحل الانحراف الذي يعتمد على مغازلة الرغبات لدى الفرد الذي يعاني من الفراغ ومن حالة الإحباط واليأس لدى فئة الفقراء والمسحوقين الذين يهربون من الواقع الصعب إلى سراب الترفيه في الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ، ومسارات الحرب الناعمة ما كان لها أن تنجح لولا جهود الأعداء في تغييب النموذج الحضاري الإسلامي المحمدي الجاذب والقريب من الأفئدة والنفوس ..
أخيراً
تبقى فعالية الاحتفال بذكرى المولد لهذا العام أوسع واكبر في دلالاتها وأبعادها لكنها بعظمتها تعبر عن عظمة شعب محمدي أصيل يثبت كل عام أنه أهل للكرامة والعزة والانتصار.